الأغنية الأمازيغية: من مصدر للتثقيف والتنوير إلى مشتل للتفاهات
في إحدى أغانيه الجميلة المعنونة مانيك رادسكرغ أياماركي (ما عساي أفعل أيها الغناء) يخاطب الرايس الحاج المهدي بنمبارك الأوكسجين الذي يتنفسه وهو الغناء ليعبر عن حسرته لفراقه واعتزاله وهو في أوج عطائه والسبب على هذا الفراق الحزين حسب ما أباح لي به أثناء زيارته في بيته بالبيضاء هو ذاك الانحراف والتشوه الذي أصاب الأغنية الأمازيغية. هذا اعتراف محزن يعبر بكل صدق ووضوح عن الإنحذار والانكسار الذي أصاب الأغنية الأمازيغية قي مقتل ليس في الكم والوسائل بل في الجوهر الذي تأسست عليه كنهه ومضمونه الكلمة والقصيدة التي تعتبر مرجعا في مختلف المواضيع الفكرية والثقافية سواء لدى الرعيل الأول اوالثاني من الروايس والقلة القليلة من الحيل الحالي من يمكن اعتباره امتدادا للسابقين وأخص بالذكر لا على سبيل الحصر كل من الرايس ايدر والرايس سعيد اوتاجاجت الى حد ما. هذا الصنف الراقي الذي كان ملهما ومنبعا في ترسيخ القيم الفاضلة التي تميز المجتمع والإنسان الامازيغيين في سوس وسأكتفي ببعض النماذج لأن المجال لايتسع لذكر كل ما أبدعته تلك الطاقات الفريدة فقصيدة الحاج المهدي بنمبارك.
كانت مرجعا فقهيا لكل راغب في الحج في عصر طغى فيه الجهل والأمية وانعدمت وسائل التوعية في المجال. تضاف إلى هذا المرجع الفريد قصيدة قصة وفاة النبي وأخرى حول سيرة الصحابة للفنان عمر واهروش رحمه الله. أما في التاريخ المحلي والجغرافيا وعلم الاجتماع فجل الروايس وحتى بعض المعاصرين جادوا بقصائدهم الطويلة في التعريف بمختلف المناطق التي زاروها من الصويرة إلى الحوز وسوس الخ... وما تتميز به كل منطقة. وللنضال بالكلمة الصادقة الجريئة نصيب من هذا التراث العظيم واكتفى بذكر نموذجين وهرمين من أهرامات هذا الفن الرايس جانطي في أغانيه ضد المستعمر الفرنس والرايس الحاج محمد المسيري الذي غنى قصيدته المشهورة ب "أكرن" أي الدقيق والتي انتقد فيها الأوضاع الاجتماعية للبلاد وذاق علي إثر ذلك مرارة السجن كما سلفه جانطي علي يد الفرنسيس رحم الله الجميع وأسكنهم الفردوس الأعلى وقد تسيد فن الروايس الميدان وحده كمنهل سوسيوثقافي وحيد في ربوع سوس إلى أن ظهر لون تزنزارت في السبعينات
فزرع في قلوب الناس وخاصة الشباب التعاطف ومعانقة هموم الناس ومشاكلهم و قضاياهم في ظل سنوات الرصاص وماعاناه الناس من ظلم وجور ورغم الرمزية التي تتمتع بها اغاني تزنزارت فهي شكلت متنفسا للطبقات المسحوقة والرافضة لكل اشكال الظلم والقهر والطغيان . بل إن تواجد مجموعات تزنزارت بسوس وتغنيها باللسان الأمازيغي لم يكن عائقا في تخطي حدود المغرب سواء من حيث التضامن والتغني بهموم شعوب أخرى كفلسطين أو من حيث الامتداد الجماهيري خارج الوطن ولا يمكن أن تشعر بالضجر أو الملل عندما تسمع لهذه القصائد رغم طولها فسماعها أشبه بتصفح كتاب أو موسوعة تسبح بك في عوالم المعرفة والثقافة صيغت بشكل مبسط وسلس رغم طغيان الرمزية عليها ، تزينها ألحان أخاذة تأسر معها النفوس تزينها أصوات رائعة .
واليوم وللأسف ومع توالي الرحيل لتلك الطاقات أصبحت قافلة الإبداع والالتزام والذوق الرفيع في ركن قصي نعيش معها على تلك الخالدات دون أن تبزغ في الأفق ملامح خير خلف لخير سلف. إذ أصبح مجال الأغنية الأمازيغية أشبه بحديقة من التراث مكسورة الأبواب متهاوية الجدران وبدون حراس يلج إليها كل من مر بجانبها وعندما ينتهي من اللعب يترك وراءه خسائر وآثار شوهت تلك المعالم والزخرفة التي أثقنهنا وابدع في تشكيلها قطعة قطعة ذلكم الرعيل الأول من المبدعين.
عصر الاستهلاك واللهث وراء الشهرة الزائفة والمال عوامل غيرت مفاهيم معايير النجاح والتفوق في مجال الفن بصفة عامة. فأصبح التهافت على احتلال المراكز الأولى في الطوندونس وعدد المشاهدات المعيار الأوحد للنجاح والتفوق هذا الخرم الذي مس الأغنية الأمازيغية ماهو إلا نتيجة رديئة للسياسة الإعلامية التي تشجع التفاهات و الرداءة، وجشع المنتجين وفساد الأذواق التي أثرت سلبا على منظومة القيم للمجتمع الأمازيغي وللفنان نصيبه أيضا من المسؤولية في هذا الوضع.
إن نشرالتفاهات وإفساد الذوق باسم الفن بالتميز السلبي عن الجميع ولو بالتمرد على القيم تشكل ورما في الجسم الفني الأمازيغي لكن التوجهات والأشكال الفنية التي أدت إلى هذا المنحذر سوف تتلاشى من الذاكرة الجمعية للأمازيغ لأنها تحمل في طياتها جينات التدمير الذاتي وعوامل الاندثار السريع . ولم اجد تعبيرا وتصويرا لهزه الوضعية ادق من تصوير الفنان الكبير علي شوهاد أرشاش في أحد الأبيات في قصيدة تمغرا ووشن حين قال.: إكاتين دايتمتات الرايس إدر أومارك غيكاد دايتمتات أومارك إدر الرايس أي : فيما مضى يموت الرايس فتبقى اغانيه خالدة واليوم تموت الأغنية ويبقى الرايس حيا.
حنين سعيد